صيف لبنان المزدهر.. هل تنهض السياحة باقتصاد البلاد المنهار؟
عند شباك التذاكر في مدينة جبيل اللبنانية، يدفع سائح فرنسي ما قيمته أقل من 3 دولار لدخول قلعة جبيل التاريخية مع زوجته وأبنائه، ويصف رحلته بالتجربة الاستثنائية، ويقول للجزيرة نت “نزور لبنان أول مرة، وترددنا بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية، لكننا نقضي وقتا ماتعا للغاية باكتشاف معالم البلد وجماله، مقابل كلفة متدنية”.
وحال هذا السائح كمئات الأجانب الذين قصدوا لبنان لقضاء عطلة الصيف. وخلافا للتداعيات الكارثية على اللبنانيين جراء انهيار قيمة الليرة وتآكل قدرتهم الشرائية بأكثر من 90%، يستقطب الوضع النقدي للبنان الأجانب والمغتربين حاملي العملات الصعبة، بسبب تدني تكاليف السلع والخدمات -بالنسبة لهم- بالدولار، وفقاً لـ «الجزيرة.نت».
جولة سياحية
وداخل جبيل، إحدى أقدم المدن التاريخية في العالم، يتجول لبنانيون وبعض العرب والأجانب للاستجمام على شاطئها وفي مطاعمها ووسط معالمها الأثرية والدينية، وفي سوقها “العتيق” الذي يعرض الملابس التقليدية ومنتجات الحرف اليدوية والتذاكر.
وأمام محله لبيع العباءات المطرزة (أرتيزانا) منذ 40 عاما، يقول اللبناني ديمتري أندلافت للجزيرة نت “نتنفس الصعداء أخيرا لتعويض خسائرنا، وأعاد السياح النبض لمدينتنا، ويشترون منتجاتنا المعروضة بأسعار مشجعة”.
وعلى بُعد أمتار منه، تفوح رائحة الصابون الممزوج بالزيوت والعطور، وتنهمك نايلة بصناعته وتغليفه وتقول للجزيرة نت “نصنع كل صابونة بـ5 مواد طبيعية للجسد والوجه والشعر، يشتري السياح منها بكثرة نظرا لندرتها وجودتها العالية ولأن سعر الواحدة يتراوح بين 2 و10 دولارات”.
تناقض المشهد
تعكس جبيل مشهد الازدهار بمختلف المناطق السياحية في البقاع والشمال والجنوب وفي بيروت، وذلك بعد عامين من الانتكاسة والخسائر بسبب ترافق الأزمات مع تفشي فيروس كورونا.
ومن يجول في لبنان، يلحظ ازدهار موسم السياحة الصيفية، وهو ما يتناقض مع واقع بلد يعيش انهيارا حقيقيا ما بين الأسوأ عالميا، وضع نحو 85% من سكانه تحت خط الفقر.
وبلغ سعر صرف الدولار بالسوق السوداء في لبنان مؤخرا نحو 32 ألف ليرة، فأصبح المعدل العام للأجور في لبنان يوازي أقل من 50 دولار.
ويشعر محمد العلي -وهو موظف بمؤسسة رسمية- بالضيق والأسى هذا الصيف، كآلاف اللبنانيين، ويقول للجزيرة نت “نحن لا نحمل الدولارات ولا نستطيع توفير أدنى حاجاتنا، ولم أذهب مع أطفالي إلى المنتجعات السياحية التي كنا نرتادها قبل الأزمة، لأن دخولها أصبح باهظا جدا، والراتب الشهري بالكاد يكفي لسداد كلفة مولد الكهرباء الخاص”.
إجراءات الوزارة
وفي الصيفين الماضيين، دفع الانهيار وانفجار مرفأ بيروت إلى إغلاق مئات المؤسسات السياحية، ومن بقي من أصحابها رفع أسعاره كثيرا تماهيا مع سعر صرف الدولار بالسوق السوداء.
ولأول مرة، سمحت وزارة السياحة هذا الصيف لمختلف المؤسسات السياحية بتحديد أسعارها مباشرة بالدولار، ما أثار استياء شريحة واسعة من لبنانيين تخشى تكريس “الدولرة”، بظل فوضى الأسعار.
وفي حديث مع الجزيرة نت، يوضح وزير السياحة في حكومة تصريف الأعمال وليد نصار، أن قرار التسعير بالدولار والفوترة بالليرة اللبنانية وفقا لسعر الصرف بالسوق السوداء “لا يلحق الضرر باللبنانيين، بل يضمن شفافية التسعير لدى المؤسسات السياحية، التي أصبح لديها خيار تحصيل إيراداتها بالعملة الصعبة، لأن أكثر من 60% من كلفتها التشغيلية بالدولار”.
وقال “أصر على قراري الذي لقي ترحيبا من المؤسسات السياحية، وأدعو مختلف المؤسسات -بما فيها الغذائية- إلى التسعير بالدولار والفوترة بالليرة طالما أن معظم استهلاكنا مستورد”.
ويرى الوزير أن لبنان يعيش أفضل موسم سياحي لصيف 2022 مقارنة بالعامين السابقين، إذا بلغ عدد الوافدين عبر مطار بيروت نحو مليون و200 وافد، منهم 75% من اللبنانيين المغتربين و25% من السائحين العرب والأجانب.
وقال نصار إن السياحة الداخلية نشطة، والسيّاح يملؤون المطاعم والفنادق وبيوت الضيافة والمعالم البيئية والدينية والتراثية، و”هذا مؤشر إيجابي قياسا لظروف لبنان الاستثنائية”.
ويكشف الوزير أن دراساتهم الأولية تقدر حجم الإيرادات نهاية الموسم السياحي بنحو 4 مليارات دولار، و”هو رقم ممتاز مقابل شلل القطاع المصرفي وتحوّل اقتصادنا إلى نقدي”، علما أن الإيرادات السنوية من السياحة كانت تبلغ قبل الأزمة نحو 9 مليارات دولار.
ويلفت إلى أن خزينة الدولة تستفيد من هذه الإيرادات على مستوى الضرائب على الدخل فقط.
ويشير الوزير إلى أن أولوية الحكومة إعادة الثقة للقطاع المصرفي كعمود فقري للبنان، و”تنشيط الاقتصاد عبر القطاع السياحي، وأن نضع خطة لتنشيط السياحة بموسمي الخريف والشتاء لضمان استدامتها”.
انتعاش بوجه الانهيار
ويشكو اللبنانيون من عجز السلطات عن توفير أدنى أساسيات الحياة من كهرباء ومياه وتغطية صحية وسط شلل مختلف الخدمات والمؤسسات الحكومية.
ويقول الأمين العام لاتحادات النقابات السياحية جان بيروتي للجزيرة نت، إن القطاع السياحي تمكن من توفير الخدمات للوافدين والمقيمين. و”الدليل أن الحجوزات في الجبل تجاوزت 70% وفي الساحل نحو 85%، وأسعار الفنادق رخيصة مقارنة بالدول المجاورة علما أن تكاليف الطاقة باهظة كثيرا وتوفرها كل مؤسسة بشكل فردي”.
وتفيد التقديرات بأن القطاع السياحي كان يشغل نحو 150 ألف عامل مسجلين رسميا لدى الضمان الاجتماعي، ويضاف إليهم نحو 35 ألفا بموسمي الاصطياف والأعياد. لكن منذ حراك أكتوبر/تشرين الأول 2019 خسر أكثر من 80 ألف عامل وظائفهم بشكل كلي. أما هذا الموسم، “فاستقطبنا نحو 40 ألف موظف جديد، ورواتبهم متوسطة ويستفيدون كثيرا من البخشيش”، وفق بيروتي.
تستقطب السياحة الدينية العديد من الزائرين في لبنان
تاريخ الازدهار أم الهشاشة؟
تاريخيا، يعتمد لبنان على قطاعي السياحة والخدمات كرافد أساسي لاستقطاب الأموال والاستثمارات، وكان يوفر نحو 25% من الناتج المحلي، وفق تقديرات غير رسمية. فهل يعكس ازدهار القطاع السياحي نهوضا اقتصاديا فعليا ومستداما؟
يُذكّر الخبير الاقتصادي علي نور الدين أن اعتماد لبنان التاريخي على قطاعي السياحة والخدمات، حصل كأمر واقع نتيجة تدهور قطاعات أخرى، ولم تدعم الدولة قطاعات الصناعة والزراعة التي كان يمكن أن تشكل رافدا مستداما وصلبا.
ويقول الخبير للجزيرة نت إن الخدمات التي كان لبنان يتغنى بها، من تعليم وطبابة وغيرها، تعود للقطاع الخاص مقابل إضعاف دور مختلف الخدمات العامة التابعة للدولة.
ويصف نور الدين تعويل لبنان على السياحة والخدمات، بالهش، “لأنه يتطلب تفعيل دور الدولة وتوفير الاستقرار السياسي والأمني وتحديد الوجهة الإستراتيجي”.
ومنذ العام 2005 بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، “كل اضطراب سياسي وأمني -وبالعلاقة مع الدول الاقليمية- كان يشل القطاع السياحي”.
لذا، يجد نور الدين أن السياحة لم ولن تسهم ببناء اقتصاد قوي ومتين، “لعدم ترافقها مع سياسات مدروسة ورؤية شاملة لشكل الاقتصاد الذي يحتاجه لبنان”.
ويوضح أن إمكانية استفادة الدولة من إيرادات الموسم السياحي محدودة، “لأن حجم الرسوم التي تأخذها الدولة من مختلف القطاعات لا يزال ضئيلا مقارنة بحجم إيراداتها التي تقاس بسعر صرف الدولار بالسوق السوداء. “ولم يشهد لبنان أي تصحيح لسياساته الضريبية مقابل غياب الشفافية حول تصريح المؤسسات عن مداخيلها”.
ولفت إلى أن كل الدولارات تتحرك بشكل ضبابي ولا تدخل لبنان عبر وسيط رسمي منظم، وهو دور كان يفترض أن تلعبه منصة “صيرفة” في مصرف لبنان المركزي لكنها متعثرة وثمة فجوة بينها وبين سعر الصرف بالسوق السوداء الذي تغيب عنه الشفافية، ويديره لاعبون كبار عبر المضاربات وليس بالعرض والطلب.
ويصف نور الدين بدء تشريع التسعير بالدولار بالقرار الكارثي الذي سيمعن بتدمير العملة الوطنية وفقدان الثقة بها. وقال “سيكون للدولرة تداعيات خطيرة على اللبنانيين أصحاب المداخيل بالليرة، إذ تتضارب مصلحتهم العامة مع مختلف المؤسسات التي تبغي الاستفادة من الوافدين وحاملي الدولارات تعزيزا لأرباحها بمعزل عن أي رؤية وطنية شاملة”.