أخبار دولية

المدارس في زمن فيروس كورونا… النموذج الفرنسي المثير للجدل

قبل عام من الآن، وتحديدا في 17 مارس 2020، فرضت فرنسا الحجر الصحي الشامل على سكانها في محاولة منها لكبح انتشار جائحة فيروس كورونا. كما أغلقت المدارس في جميع أنحاء البلاد. منذ ذلك الحين، أعيد فتح المدارس مرة أخرى رغم تسارع وتيرة انتشار المرض مجددا، خلافا للقرارات المتخذة في دول أوروبية أخرى. موقف يضع قرارات وزارتي الصحة والتعليم الفرنسيتين موضع التساؤل.

قبل فرض الحجر الصحي مجددا نهاية الأسبوع الماضي على منطقة باريس وضواحيها نتيجة انتشار المتحور البريطاني من الفيروس واكتظاظ وحدات العناية المركزة بالمرضى، سرت شائعات قوية حول نية الحكومة فرض حجر صحي شامل من جديد دون أي استعداد من الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته لعبور الخط الأحمر المتمثل في إغلاق المدارس، وفقاً لـ «فرانس24».

وعند إجراء مقارنة سريعة بين فرنسا ودول غربية أخرى، نجد أن فرنسا قد أغلقت مدارسها 9.7 أسبوعا تقريبا، وفقا للأرقام الصادرة عن اليونسكو. في المقابل، أغلقتها ألمانيا 23.6 أسبوعا، والمملكة المتحدة 25.9 أسبوعا، وإيطاليا 30 أسبوعا. وعبر المحيط الأطلسي، حُرم الطلاب الأمريكيون من الدروس لمدة 43.1 أسبوعا، بينما بقي الكنديون في المنزل لمدة 36.7 أسبوعا، وذلك حسب كليمان بون، وزير الخارجية المكلف بالشؤون الأوروبية في الحكومة الفرنسية.

“المؤسسة الأهم على الإطلاق”

وفي مقابلة إذاعية على فرانس أنتر العمومية، قال وزير التعليم جان ميشيل بلانكير مطلع شهر مارس الجاري: “بالفعل لقد أصبح فتح المدارس زمن الجائحة استثناء فرنسيا، لكنه استثناء يجعلنا نشعر بالفخر. فهذه الأزمة الصحية كان يمكن لها أن تؤدي إلى كارثة تعليمية وهو الأمر الذي أعمل على تجنبه هنا في فرنسا”.

وحين بدأت عمليات إجلاء المرضى الأسبوع الماضي من باريس إلى مستشفيات أقاليم نانت وأنجيه ولومان، كرر بلانكير وجهة نظره في صحيفة “لو باريزيان”، وقال: “المدرسة هي آخر شيء يتم إغلاقه؛ فهي أهم مؤسسة في المجتمع ولذلك لا يمكننا إغلاق المدرسة إلا عندما نجرب كل شيء آخر ونرى أنه لا يكفي”.

خلال الموجة الثانية والثالثة الحالية من وباء كوفيد-19، لم يهدر المتخصصون في الصحة والتعليم أية فرصة للتعبير عن استيائهم لافتقار الحكومة إلى الإرادة للحد من انتشار الفيروس في المدارس. ففي بداية شهر يناير الماضي، أعلن وزير والتعليم أنه يأمل في أن يتم تطعيم المعلمين “بنهاية شهر مارس على أقصى تقدير” قبل أن يعود ويتحدث عن “نهاية شهر أبريل”. بيد أنه في النهاية أوضحت الحكومة أن المعلمين لا يمثلون أولوية على الإطلاق بالنسبة لحملة التطعيم وذلك على عكس دول أخرى مثل إيطاليا أو ألمانيا أو البرتغال أو إسبانيا أو الولايات المتحدة.

لكن قبل عام من الآن، وخلال خطابه المتلفز أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن إغلاق المدارس وبرر قراره ذاك “بأنه لسبب بسيط” ألا وهو أن “أطفالنا وصغارنا، وفقا للعلماء، هم من ينتشر الفيروس من خلالهم، على ما يبدو، سريعا حتى لو لم تظهر عليهم أعراض. ولحسن الحظ، فهم لا يعانون أية صورة حادة من المرض”. ثم أضاف موضحا أن هذا الإغلاق جاء “لحمايتهم وللحد من انتشار الفيروس في أنحاء البلاد”.

المدارس تفتح خلال الحجر الصحي الثاني

وفي بداية مايو 2020، كانت المدارس تستعد لإعادة فتح أبوابها تدريجيا بعد أن تغيرت العقلية الرسمية بشكل كبير. فقد أوضح جان ميشيل بلانكير لـصحيفة “لو فيغارو” أن الدراسات الحديثة أظهرت أن الأطفال أقل عدوى. وهي كلمات لم تقنع أولياء أمور التلاميذ بشكل كامل في ذلك الوقت. وفي يونيو قال 56 بالمئة من الفرنسيين في استطلاع رأي إنهم غير موافقين على قرار الحكومة بعودة الأطفال للمدرسة خلال الأسبوعين الأخيرين من العام الدراسي.

وخلال الحجر الصحي الثاني في نوفمبر 2020 أبقت الحكومة على المدارس مفتوحة حتى مع عدم تحقق الهدف الذي أعلنته والمتمثل في خفض عدد الإصابات الجديدة إلى أقل من 5000 حالة في اليوم. ومع ذلك استمر وزير التربية والتعليم في إعلانه، في مقابلة على إذاعة “أوروبا 1” في 5 يناير/كانون الثاني أن الأطفال كانوا أكثر عرضة للإصابة بالفيروس خارج المدرسة. وفي نفس اليوم على الجانب الآخر من بحر المانش، قررت إنكلترا، إرسال الأطفال إلى منازلهم وإغلاق المدارس.

عند سؤاله عن هذا الاستثناء الفرنسي، أشار مؤرخ التعليم كلود ليليفر إلى دور المدرسة في تاريخ البلاد بالقول “منذ عهد الثورة الفرنسية، منحت المدرسة كمؤسسة دورا شبه تأسيسي. وعندما يواجه المجتمع مشكلة خطيرة يظن الجميع بأن الحل يقع في يد هذه المؤسسة”. بالنسبة لهذا المؤرخ، أصبحت المدرسة في فرنسا “معلما مهما يجب حمايته”. لذا فإنه بالنسبة له “المخاطرة بترك المدارس مفتوحة لا يصطدم مع قناعاتنا الجماعية”.

من جهة أخرى، اتخذ علماء فرنسيون بارزون موقفا مختلفا. فقد انتقد عالم الأوبئة دومينيك كوستاليولا الحكومة بصوت عال وقال مصرحا لصحيفة “لو باريزيان” في شهر ديسمبر الماضي: “إنه لمن الحماقة الادعاء بأنه لا توجد عدوى في المدارس، … وأنا لا أنتقد على الإطلاق مسألة تركها مفتوحة فأنا أتفهم ذلك تماما، الخطأ فقط هو في التظاهر بعدم حدوث شيء [من حيث التلوث، ملاحظة المحرر]. لأنه عندئذ لن نتحرك لاتخاذ أي إجراء ولا لإنفاق المال. على العكس من ذلك، أعتقد أنه يمكننا القيام بأشياء مثل وضع أجهزة الكشف عن ثاني أكسيد الكربون، وتجهيز الغرف التي لا يمكن فتحها بأجهزة تنقية الهواء” ثم أضاف “لقد تم تقديم مقترحات في هذا الاتجاه، لكنها للأسف الشديد رفضت جميعها لأنه كما قيل لنا فكل شيء على ما يرام”.

فتح المدارس على حساب صحة العاملين والعائلات

من جهتها، تعتقد النقابية غيسلين دافيد أيضا في حديثها لفرانس24 أن تصريحات جان ميشيل بلانكير سخيفة، وتقول: “يتراوح عدد التلاميذ في الفصل الواحد بين 25 و30 طفلا. أما في الأسرة، فلا يمكن أن يبلغ عدد الأفراد أبدا 25 أو30 شخصا، هذا مستحيل وهي حقيقة لا يمكن إنكارها. لذا فلا يمكن أن يكون انتشار الفيروس في العائلات أكثر منه في المدارس”. ثم تضيف: “بما أن الوزير يعتبر أن الفيروس لا ينتشر في المدارس، فإنه لم يضع بروتوكولا يسمح بحماية الجميع. وها نحن نشهد حاليا انفجارا في عدد حالات العدوى في مدارسنا”. ووفقا لآخر الأرقام التي جمعتها النقابة فقد زادت حالات الإصابة بنسبة 134? في الأسبوع الماضي بين الطلاب وبنسبة 125.3? بين الموظفين مع إغلاق 833 فصلا (زيادة بنسبة 64?).

وتعتبر غيسلين دافيد أيضا أن التقليل من مخاطر الإصابة بالعدوى لدى الأطفال والحملة الأخيرة لاختبار اللعاب قد ثبط من عزيمة أولياء الأمور بشأن اختبار أطفالهم. وتقول باقتضاب: “لطالما كانت رغبة حكومتنا هي إبقاء المدارس مفتوحة لأغراض اقتصادية بحتة. وهذا يعني أنه عندما يكون الأطفال في المدرسة، يمكن للوالدين العمل”.

يتساءل آخرون أيضا عن خيار إبقاء الفصول مفتوحة في وجود حالات الاتصال. فإذا أصيب طفل بالفيروس في فصل دراسي وكان هذا هو الفيروس البرازيلي، فسيتم اعتبار المعلم حالة اتصال لأن ذلك المتحور بالتحديد يمثل مشكلة. بالنسبة للحالات الأخرى، لا يُنظر إلى المعلم أبدا على أنه حالة اتصال، بينما نعلم أنه في فصولنا الدراسية، يكون المعلم دائما قريبا من الطلاب.

وتصر غيسلين دافيد على أن “الهدف الأساسي للحكومة ليس إغلاق المدارس والفصول حتى لو أثر ذلك على صحة الموظفين والعائلات”. إن نقابتها لا تريد إغلاقا كاملا للمؤسسات، ولكنها تناضل من أجل إغلاق الفصول بمجرد ظهور أول إصابة مؤكدة “من الأفضل أن يكون هناك إغلاق للفصل لمدة خمسة عشر يوما بدلا من عشرة لمنع انتشار الفيروس داخل العائلات. يجب علينا وضع الصحة أولا”.

كما غرد محمود زريق، أستاذ علم الأوبئة والصحة العامة في جامعة فرساي، قائلا: “طالما ظل جان ميشيل بلانكير والسلطة التنفيذية في حالة إنكار تام لما يتعلق بدور المدرسة في انتقال العدوى، فلن نتمكن من السيطرة على الوباء. ففي جميع الأقاليم الفرنسية باستثناء أربعة فإن الإصابة بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عاما أعلى من المتوسط العام في إقليمهم”.

زر الذهاب إلى الأعلى