صحة

«نتسوّل للبقاء على قيد الحياة».. مريضات سرطان الثّدي في لبنان يفتقدن العلاج

وزارة الصحة تخلفت منذ انتشار جائحة كورونا عن إطلاق أي حملة للكشف المبكر

• معانات المرضى تمتد على عدة مستويات بسبب نقص الأدوية وتأثيرات الأزمة الاقتصادية

بينما يضج العالم مع بداية شهر أكتوبر بحملات التوعية والتثقيف بشأن سرطان الثدي وضرورة كشفه المبكر، من خلال التشديد على إجراء الفحوصات الدورية الضرورية، يغيب لبنان للعام الثالث عن أي فعالية رسمية بهذا الشأن، بعدما تخلفت وزارة الصحة اللبنانية منذ انتشار جائحة كورونا (2020) عن إطلاق أي حملة.

نسبة كبيرة من نساء لبنان، كن ينتظرن هذه الحملات لإجراء فحوصات سنوية بتكاليف رمزية وتسهيلات، لاسيما من الفئات الاجتماعية الأكثر حاجة وفقراً، والتي باتت تشمل النسبة الأكبر من الشعب اللبناني، نتيجة الانهيار الاقتصادي الواقع منذ العام 2019،  وفقاً لـ «الحرة».

أدى ذلك إلى تراجع كبير في نسبة النساء اللواتي يقبلن على الفحوصات الدورية الوقائية، ما انعكس انخفاضاً في نسب الكشف المبكر، الذي يلعب الدور الأبرز في علاج سرطان الثدي، بعدما باتت الفحوصات ضرباً من الكماليات، تفوق تكلفتها قدرة الكثير من العائلات اللبنانية، التي تكافح بصورة يومية لتأمين معيشتها وحاجاتها الرئيسية.

ويأتي هذا الواقع فيما يسجل لبنان نحو 2500 إصابة جديدة بسرطان الثدي سنويا، على أقل تقدير، بحسب آخر إحصاء جرى عام 2016 في «السجل الوطني للسرطان»، بينما يرجح هاني نصار، رئيس جمعية «بربارة نصار» المعنية بدعم ومساعدة مرضى السرطان في لبنان، أن يكون العدد اليوم أعلى من ذلك بكثير، دون إمكانية لتحديده بدقة بفعل غياب الإحصاءات الرسمية التي يمكن الارتكاز عليها منذ 7 سنوات.

الأخطر اليوم أن معظم حالات سرطان الثدي التي تسجل يأتي اكتشافها متأخراً، بحسب تأكيد نصار لموقع «الحرة»، بحيث تتوجه السيدات للكشف بعد شعورهن بوجود المرض او الكتلة، وهي مرحلة متقدمة لسرطان الثدي، الذي بات أكثر السرطانات انتشاراً لدى النساء في لبنان.

لا يتميز لبنان في ذلك عن الواقع العالمي، بحيث بات سرطان الثدي منذ العام 2020 أكثر أنواع الأورام الخبيثة شيوعا في العالم، بحسب ما أعلنته منظمة الصحة العالمية.

لكن الفرادة في حالة لبنان تكمن في حجم المعاناة التي تتكبدها المريضات، والتي جعلت المرض «أكثر رحمة من رحلة علاجه»، بالنسبة لهن.

«قويات.. ولكن»

وتمتد معاناة مرضى السرطان عموماً في لبنان، على مستويات عدة، بدءاً من توفر الدواء في لبنان، حيث يشهد انقطاعاً حاداً في العلاجات والأدوية منذ العام 2019 ناجماً عن تأثيرات الأزمة الاقتصادية، وآلية استيراد الأدوية ودعمها من ناحية الحكومة اللبنانية، ما يؤدي باستمرار لتأخر تلقي المرضى لجرعاتهم، أو حرمانهم نهائياً منها.

مروراً بقدرتهم على تحمل تكلفة العلاج الباهظة، لاسيما مع رفع الحكومة اللبنانية لدعمها المالي عن معظم أدوية وعلاجات مرض السرطان، والتقشف في تقديم الدعم واعتماد آليات متشددة ومعايير تمييزية «غير عادلة» في توزيع الأدوية المدعومة، تركت المرضى وحيدين في المواجهة، يحملون ما لا يحتملونه من ضغوط مضافة على معاناتهم مع المرض ورحلة علاجه.

وصولاً إلى المعاناة النفسية الناجمة عن شعور المرضى بالتخلي من ناحية المسؤولين وفشل السياسات الصحية القائمة في مواكبة المشكلة على مدى السنوات الماضية، وانعدام الأمل في أي حلول قريبة للوضع القائم، في ظل ازدياد الضغط على عائلات ومحيط المرضى، الأمر الذي يترك لديهم شعوراً بالذنب واليأس وميل نحو الاستسلام.

يقول نصّار «هناك سيدات قويات إلى أقصى الحدود وعلى استعداد لمواجهة المرض، ولكن ما النفع إذا ما حجبنا عنهن العلاج والأدوية؟ ما نفع المعنويات القوية؟ أي قوة ستبقى وهي محرومة من دوائها؟».

ويلفت إلى أن الضغط النفسي الذي يعانيه مريض السرطان في لبنان مرتفع.

«أولادي أحق بالحياة»

روزيت، فاطمة، وروى، 3 نساء مصابات بسرطان الثدي، لكل منهن قصة مع المرض ورحلة علاجه في لبنان، تجمعهن الإصابة بالسرطان للمرة الثانية، ومعاناة متعددة الأوجه، دفعت بكل سيدة إلى اتجاه في رحلة علاجها، لكنها أوصلتهن إلى نتيجة واحدة، مفادها أن «حق المريض في العلاج في لبنان، رهن بما يملكه من أموال».

أمضت روى سنوات طويلة من حياتها في خدمة مؤسسات الدولة اللبنانية، من خلال وظيفتها العامة، إلى أن أصيبت عام 2021 بسرطان الثدي، فيما كان لبنان يتداعى على وقع الانهيار الاقتصادي، ما حرمها من التقديمات التي كانت من حقها الوظيفي، بتلقي علاجاتها على نفقة الضمان الاجتماعي، الذي فقد قدرته على التغطية الصحية مع فقدان العملة اللبنانية لأكثر من 90 في المئة من قدرتها.

وفي ظل انقطاع أدوية السرطان، اضطرت روى للحصول على أدويتها من خارج البلاد، بسعر السوق العالمي دون القدرة على الاستفادة من الدعم الحكومي على أسعارها في لبنان، الأمر الذي أدى إلى استنزاف العائلة مادياً.

إلا أنها وبعد رحلة علاج شاقة، أظهرت الفحوصات الدورية عودة المرض للظهور مجدداً في بقع مختلفة من محيط الثدي، ما عرضها لصدمة نفسية حادة، وأعادها «إلى نقطة الصفر» وفق ما تروي لموقع «الحرة».

الصدمة الأكبر كانت في عدم قدرتها على الحصول على أدويتها المقطوعة، رغم قبولها في برنامج وزارة الصحة اللبنانية الخاص بتوزيع أدوية مرضى السرطان المدعومة حكومياً، وتلقيها لجرعتين من علاجها، إلا أن تراكم ديون الدولة اللبنانية لدى شركات استيراد الأدوية، دفع بالشركات إلى عدم استيراد كميات إضافية لصالح وزارة الصحة، ما يحرم آلاف المرضى من علاجاتهم.

ولأن الوضع الصحي لروى ما كان يحتمل تأخيراً في حصولها على جرعاتها، اضطرت عائلتها للبحث عن الدواء في السوق اللبناني من خارج إطار الدعم الحكومي، وكانت المفاجأة بسعره الذي يبلغ 440 مليون ليرة (نحو 4000 دولار) لحقنتين تحتاجهما كجرعة واحدة كل 3 أسابيع على مدى 10 جلسات، أي بتكلفة شاملة تناهز الـ 40 ألف دولار.

«إحباط على إحباط، ويأس تام دفعني لملازمة غرفتي، والاستسلام الكامل للمرض»، تقول روى التي رفضت كلياً أن تتلقى العلاج بهذا الثمن، كونه سيضع أسرتها تحت ضغط الاستدانة لتأمين المبلغ المطلوب كل 3 أسابيع.

«أولادي أحق بهم، وأحق بالحياة، ابنتي تستعد لدخول الجامعة وابني في الثانوية، هم أولى بهذه الأموال،»، بحسب روى، التي خضعت قبل أيام لضغط العائلة وتلقت الجرعة في موعدها على أمل الاستحصال على باقي الجرعات عبر وزارة الصحة اللبنانية، وتضيف «بتنا نشحد للبقاء على قيد الحياة، الموت أفضل».

تعبّر بغصة عن شعورها بأن المال «سيذهب سداً» في ظل انقطاع الدواء، ويقينها بعدم قدرة العائلة على تأمين كامل تكاليف العلاج على مدى الجلسات المطلوبة، لكنها ترضخ «على مضض» لرغبة زوجها وأولادها.

يتكرر الموقف بحذافيره مع، فاطمة عقل، وروزيت حداد، اللتان عاشتا المفاضلة نفسها ما بين مستقبل عائلاتهما وبين بقائهما على قيد الحياة، نتيجة الضغط المادي الهائل الذي باتت تشكله رحلة العلاج في لبنان.

تتكرر مقولة «إبني أحق بهذا المال» على لسان روزيت التي لم يكن لديها القدرة على تأمين المال اللازم لأدويتها، بحيث تتأخر لليوم الحادي عشر عن موعد جرعتها بانتظار حصولها على الدواء عبر وزارة الصحة.

«لن أتعالج مجدداً»

عند إصابتها في المرة الأولى، كان بمقدور روزيت تأمين أدويتها من خارج لبنان خلال انقطاعها، دون أن تتمكن من المواظبة على الجرعات في موعدها، «كان سعرها ألف دولار ومطلوبة شهرياً».

إلّا أن رحلة علاج لخمس سنوات كانت كفيلة باستنزاف روزيت مادياً، اختبرت خلالها شتى أوجه المعاناة التي تواجه مرضى السرطان، بحيث ما عاد أمامها اليوم إلا انتظار وصول الدواء من وزارة الصحة.

سبق لروزيت أن عرضت معاناتها في تحقيق لموقع «الحرة» قبل عام، وفي إطلاع على المتغيرات التي طرأت على واقعها وبالتالي على واقع مرضى سرطان الثدي في لبنان تؤكد أن شيئاً لم يتغير، «اضطررت فقط لتغيير طبيبي بسبب ارتفاع كلفة الفحص لديه إلى 125 دولاراً، فاتجهت إلى طبيب يتقاضى أقل».

وفيما كانت قد شارفت العام الماضي على إنهاء علاجها، إلا أن المعاناة النفسية وعدم انتظام تلقي الجرعات أدى إلى تراجع حالتها، ولا يزال أمامها اليوم 5 أشهر أخرى من العلاج، قبل أن تعيد فحوصاتها، «وإن شفيت سيتبقى فحوصات دورية وقائية، وأدوية هرمونية لمدى الحياة، وإبرة كل 22 يوماً كلفتها 6 ملايين ليرة مع دعم الوزارة، هذا عدا عن أدوية المناعة وإبر الحديد، آلاف الدولارات لا يزال علي دفعها، فيما راتبي 300 دولار فقط».

وتضيف «حتى لو أردت الشفاء هذه الأمور تعيدك إلى الخلف وتزيد الوضع سوءاً، هذا هو الضغط بحد ذاته، تكلفة البقاء على قيد الحياة».

تجزم روزيت بغصّة أنها لن تتعالج «لو عاد المرض مجدداً»، مشددة على أن المعاناة الصحية مع المرض «أرحم بكثير» من الضغط النفسي والمادي للعلاج في لبنان، «علبة الدواء بـ 3200 دولار، إن جمعتها لولدي سيعيش حياةً أفضل مما لو صرفتهم على العلاج، بكل ما تحمله هذه المفاضلة من ألم، خاصة أن ابني سبق أن فقد والده بسبب السرطان».

«ليست مشكلتنا وحدنا»

تروي مروى عليق، إبنة فاطمة عقل، كيف حاولت والدتها أن تتحمل المسؤولية لوحدها عندما جرى تشخيصها بسرطان الثدي في المرة الثانية، «كان الأمر قاسياً جداً عليها، أصيبت باكتئاب حاد وما عادت تغادر غرفتها».

سبق لعائلة فاطمة أن اضطرت لبيع ممتلكاتها ومنزلها، كي تتمكن من تأمين كلفة علاجها عند إصابتها في المرة الأولى، كذلك تلقت مساعدة من الأقارب والأصدقاء، إلا أن ذلك ما عاد ممكناً في المرة الثانية، في ظل تدهور الأحوال المعيشية في لبنان، واحتجاز أموال الناس في المصارف.

كل الأمور تغيرت في المرة الثانية، فراتب زوج فاطمة التقاعدي والذي كان يساوي 1600 دولار، باتت قيمته اليوم 160 دولاراً، كذلك خسر امتيازات صحية وتقديمات كان يحصل عليها من الضمان الصحي لمتقاعدي قوى الأمن الداخلي، بعدما بات علاج مرضى السرطان حصراً على نفقة وزارة الصحة، ما زاد الآلية صعوبةً، وبدل المعايير جذرياً عما سبق واختبرته العائلة.

حصلت فاطمة على دواء واحد من أصل 4 من وزارة الصحة اللبنانية، وتركت لمصيرها في تأمين باقي الأدوية باهظة الثمن.

بحسب مروى، كانت العائلة مضطرة للتفتيش عن أساليب جديدة أكثر فعالية، وفي ظل غياب الدولة والجهات الضامنة والمنظمات الداعمة عن واجبها، «كان علينا البحث عن جو من التكافل والتضامن ووجدناه في المواقع المخصصة لهذا النوع من الدعم والتمويل».

لجأت عائلة فاطمة إلى موقع «غو فاند مي» لجمع تبرعات لرحلة علاجها، بعدما باتت على قناعة بأن المشكلة ليست ذو طابع شخصي، وفق مروى.

وتشير مروى إلى أن هذا الخيار كان محاولة لنقل الأمر من الحيز الخاص إلى الحيز العام، «لأنها في الحقيقة مشكلة عامة، ولو بدت بالشكل شخصية، يتقاطع بها أكثر من عامل متعلق بالوضع العام، ما جعل حجم المشكلة أكبر من أن يحمل وزرها فرد أو عائلة من 4 أفراد، بات الأمر مستحيلاً، مادياً ومعنوياً».

زر الذهاب إلى الأعلى