تكنولوجيا

هل من الممكن أن يكون لدينا «توأم رقمي بشري» مفكر قريبا؟

يحدث كثيرا في الحياة أن يخبرك صديق ما أنه شاهد شخصا يشبهك تماما وكأنه نسخة منك، وأنه ذهب للسلام عليه ليتفاجأ أنه ليس أنت، أو أن تكون في مكان ما ويمر شخص غريب، تنظر إليه وتتفاجأ من مقدار الشبه بينك وبينه، فكأنه توأمك.

حدث هذا معي ومعك ومع الكثيرين منا في هذه الحياة، لكن تخيل لو كان بإمكانك إنشاء توأمك الخاص، نسخة طبق الأصل من نفسك، ولكنه توأم رقمي بحت هذه المرة؟، وفقاً لـ «الجزيرة نت».

هل هذا ممكن حقا؟

لم لا، فنحن نعيش في عصر يتم فيه تكرار كل ما هو موجود في العالم الحقيقي رقميا، بما في ذلك مدننا وسياراتنا ومنازلنا، وحتى أنفسنا.

قد يشبه الأمر الآفاتار (الصورة الرمزية) الخاصة بك في “ميتافيرس” (Metaverse)، فقد غدت التوائم الرقمية اتجاها تقنيا جديدا يتم الحديث عنه باضطراد حاليا؛ فالتوأم الرقمي “هو تمثيل افتراضي لكائن أو نظام يمتد عبر دورة حياته، ويتم تحديثه من بيانات الوقت الفعلي، ويستخدم المحاكاة والتعلم الآلي والتفكير للمساعدة في اتخاذ القرار لتوأمه”، وذلك حسب تعريف شركة “آي بي إم” (IBM) في منصتها الرسمية.

وحسب تقرير لمجلة “فوربس” (Forbes) صدر قبل أيام، يعد التوأم الرقمي مفهوما مثيرا للاهتمام، وهو بلا شك أحد أهم وأحدث اتجاهات التكنولوجيا في الوقت الحالي، فهو مفهوم قادر على دمج العديد من الأفكار والتقنيات معا، بما في ذلك “الذكاء الاصطناعي” (AI) و”إنترنت الأشياء” (IoT) والميتافيرس والواقعين “الافتراضي والمعزز” (VR & AR) لإنشاء نماذج رقمية لأشياء أو أنظمة أو عمليات في العالم الحقيقي، حيث يمكن بعد ذلك استخدام هذه النماذج لتعديل المتغيرات وضبطها، لدراسة التأثير الذي يمكن أن يحدث على التوأم الحقيقي أو المستنسخ، وذلك بجزء بسيط من تكلفة إجراء التجارب في العالم الحقيقي.

في البداية وقبل سنوات، كانت هذه التوائم مجرد نماذج حاسوبية ثلاثية الأبعاد، لكن مع تطور التقنيات المذكورة أصبح بإمكاننا الآن بناء شيء رقمي يمكننا التعلم منه، وقادر على مساعدتنا في تحسين الحياة، واتخاذ خيارات أكثر صحة ودقة في ما قد يواجهنا من مشاكل.

والسؤال الأهم: هل من الممكن إنشاء توأم رقمي بشري مفكر في المستقبل القريب؟

السؤال طرحته الكاتبة الإنجليزية جين ويكفيلد، ضمن تقرير لها عن الموضوع نشرته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” (BBC) مؤخرا، ويجيب عن هذا السؤال المحلل التكنولوجي روب أندرلي الذي يعتقد أنه ستكون لدينا إصدارات أولى من التوائم الرقمية البشرية المفكرة “قبل نهاية العقد الجاري”.

ويوضح أندرلي -في تصريحاته- أن “ظهور هذه الأمور سيحتاج إلى قدر هائل من إعمال الذهن والتفكير الأخلاقي، لأن النسخة طبق الأصل من أنفسنا يمكن أن تكون مفيدة بشكل لا يصدق لأصحاب العمل”، ولكنها قد تستخدم للإضرار بالأشخاص أنفسهم، مثلا “ماذا يحدث إذا أنشأت شركتك توأما رقميا لك، ثم تقول لك: مرحبا، لدينا هذا التوأم الرقمي الذي لا ندفع له أي رواتب، فلماذا نحتاج إليك وإلى توظيفك؟”

ويعتقد أندرلي أن ملكية مثل هذه التوائم الرقمية ستصبح أحد الأسئلة المحددة لعصر الميتافيرس القادم “لقد بدأنا بالفعل رحلتنا نحو توأمة البشر على شكل الآفاتار أو الصور الرمزية المستخدمة في عوالم الميتافيرس حاليا مع أنها ما زالت بدائية ومتعثرة إلى حد ما”.

ويشير أندرلي إلى أنه، في غرف عمل “هورايزون” (Horizon) التي أنشأتها شركة “ميتا” (Meta) مؤخرا، “أصبح بإمكانك إعطاء صورتك الرمزية وجها مشابها لوجهك، ولكن لا يمكنك تزويدها بأرجل للحركة على سبيل المثال، وذلك لأن هذه التكنولوجيا ما زالت في مراحلها الأولية المبكرة”.

من جهتها، تتفهم البروفيسورة ساندرا واتشتر، الأستاذة البارزة والمتخصصة في الذكاء الاصطناعي بجامعة أكسفورد، جاذبية إنشاء توائم رقمية للبشر، فهي “تذكرنا بروايات الخيال العلمي المثيرة، وقد وصلنا إلى هذه اللحظة بالفعل الآن”، أي أن يتحول الخيال العلمي إلى واقع معاش.

وتضيف أن “إمكانية أن ينجح شخص ما في دراسته أو يفشل أو يمرض، أو حتى أن يرتكب جريمة، كل هذا يعتمد على سؤال الطبيعة مقابل التنشئة والبيئة الاجتماعية المحيطة، وهو سؤال فلسفي لا يزال موضع جدل كبير حيث سيعتمد كل ما سبق على الكثير من الأشياء منها الحظ السعيد أو السيئ، والأصدقاء والعائلة، وخلفيتهم الاجتماعية والاقتصادية وبيئتهم، وبالطبع اختياراتهم الشخصية”.

وتوضح واتشتر أن الذكاء الاصطناعي ليس جيدا بعد في التنبؤ بهذه “الأحداث الاجتماعية الفردية، نظرا لتعقيدها المتأصل، وهكذا، لدينا طريق طويلة لنقطعها حتى نتمكن من فهم وصياغة حياة الشخص من البداية إلى النهاية، بافتراض أن ذلك ممكن على الإطلاق” وذلك بهدف الوصول إلى مرحلة خلق توأم رقمي كامل له، وبدلا من ذلك، من الممكن استخدام التوائم الرقمية حاليا في مجالات تصميم المنتجات والتوزيع والتخطيط الحضري.

تطبيقات عملية تجري حاليا

ومن التطبيقات التي تجري حاليا بالفعل والتي ذكرتها ويكفيلد، في تقريرها، استخدام فريقي “ماكلارين” (McLaren) و”ريد بول” (Red Bull) لهذه التوائم في سباقات الفورمولا 1 الخاصة بهم، وفي الوقت نفسه، تعمل شركة “دي إتش إل” (DHL) على إنشاء خريطة رقمية لمستودعاتها وسلاسل التوريد الخاصة بها كي تصبح أكثر كفاءة.

كما أن هناك الكثير من المدن الكبرى في العالم التي أنشأت لها توائم رقمية، مثل مدينتي شنغهاي وسنغافورة، وذلك للمساعدة في تحسين تصميم وتشغيل المباني وأنظمة النقل والمواصلات والشوارع؛ فعلى سبيل المثال، في سنغافورة تتمثل إحدى مهام التوأم الرقمي في المساعدة على إيجاد طرق جديدة للتنقل بعيدا عن الازدحامات المرورية وتجنب مناطق التلوث.

وتستخدم أماكن أخرى هذه التكنولوجيا لاقتراح مكان إنشاء بنية تحتية جديدة مثل خطوط مترو الأنفاق، كما يتم بناء مدن جديدة في الشرق الأوسط بشكل متزامن في العالمين الحقيقي والرقمي.

وتقول شركة البرمجيات الفرنسية “ديسولت سيستمز” (Dassault Systemes) إنها ترى الآن اهتماما من آلاف الشركات في العالم بتكنولوجيا التوائم الرقمية التي تنتجها، وشمل عمل الشركة حتى الآن استخدام التوائم الرقمية لمساعدة شركة العناية بالشعر على تصميم زجاجات شامبو أكثر استدامة رقميا، بدلا من النماذج الأولية التي لا نهاية لها في الحياة الواقعية، وهذا يقلل من النفايات والتلوث البيئي كما تؤكد الشركة.

كما تُمكّن الشركة -حسب ويكفيلد- المؤسسات والشركات الأخرى من تصميم مشاريع مستقبلية جديدة من الدراجات ذات العجلات العائمة، وحتى السيارات الطائرة، حيث يتم بناء نموذج رقمي من هذه المنتجات وتجري تجربته افتراضيا قبل نقله وتصنيعه على أرض الواقع.

كل هذه تطبيقات آلية رائعة، ولكن القيمة الحقيقية التي نلاحظها في التوائم الرقمية تكمن في مجال الرعاية الصحية.

“قلب رقمي”

وفي هذا السياق، أنشأ مشروع القلب الحي لشركة ديسولت سيستمز نموذجا افتراضيا دقيقا لقلب الإنسان يمكن اختباره وتحليله، مما يسمح للجراحين بتنفيذ سلسلة من سيناريوهات “ماذا لو” لهذا العضو، باستخدام إجراءات وأجهزة طبية مختلفة.

وأشارت الكاتبة إلى أن هذا المشروع الحيوي أسسه الدكتور ستيف ليفين، الذي كانت لديه أسباب شخصية لرغبته في إنشاء توأم رقمي حيث ولدت ابنته بمرض خلقي في القلب، وبعد سنوات قليلة، عندما كانت في أواخر العشرينيات من عمرها، أصبحت معرضة لخطر الإصابة بقصور القلب، فقرر إعادة إنشاء قلبها في الواقع الافتراضي.

كما يستخدم مستشفى “بوسطن” للأطفال الآن هذه التقنية لرسم خريطة لأمراض القلب الحقيقية للمرضى، بينما في مستشفى “غريت أورموند ستريت” في لندن، يعمل فريق من المهندسين مع الأطباء لاختبار الأجهزة التي قد تساعد الأطفال الذين يعانون من حالات قلبية نادرة وصعبة العلاج.

كما أن إجراء التجارب على “القلب الرقمي” له تأثير غير مباشر يتمثل في تقليل الحاجة إلى الاختبار على الحيوانات -وهو أحد الجوانب الأكثر إثارة للجدل في البحث العلمي، كما تقول سيفيرين ترويليت، مديرة الشؤون العالمية في ديسولت سيستمز. وتخطط الشركة الآن لإنتاج المزيد من توائم الأعضاء الرقمية، بما في ذلك العين وحتى الدماغ.

وتؤكد ترويليت أنه “في مرحلة ما، سيكون لدينا جميعا توأم رقمي، وهو ما سيسهم في تطوير الطب الوقائي إلى مستويات جديدة، وصولا إلى تخصيص كل علاج حسب الحالة المرضية لكل شخص”.

وربما يكون السباق لبناء نسخة رقمية لكوكبنا بأكمله أكثر طموحا من استنساخ الأعضاء البشرية

وفي هذا السياق، تدير شركة البرمجيات الأميركية “إنفيديا” (Nvidia)، منصة تسمى “أومني فيرس” (Omniverse)، مصممة لإنشاء عوالم افتراضية وتوائم رقمية، وأحد أكثر مشاريعها طموحا هو بناء صورة رقمية شبيهة بالأرض، والتقاط صور عالية الدقة لسطحها بالكامل. وستستخدم “إيرث-2″ (Earth-2)، كما يطلق عليها، مجموعة من نماذج التعلم العميق والشبكات العصبية لتقليد البيئات المادية في المجال الرقمي، والتوصل إلى حلول للتغير المناخي.

وفي مارس الماضي، أعلنت “المفوضية الأوروبية” (European Commission)، بالاشتراك مع “وكالة الفضاء الأوروبية” (European Space Agency )، خططها الخاصة لإنشاء توأم رقمي للكوكب، أطلق عليه اسم “ديستينيشن إيرث” (Destination Earth).

وتأمل، بنهاية عام 2024، أن تكون قادرة على الحصول على بيانات كافية من عمليات المراقبة والمحاكاة في الوقت الفعلي للحصول على توأم رقمي يركز على الفيضانات والجفاف وموجات الحر، وذلك جنبا إلى جنب الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل والانفجارات البركانية وأمواج تسونامي، وتزويد البلدان بخطط ملموسة لإنقاذ الأرواح في مواجهة هذه التحديات المتزايدة.

زر الذهاب إلى الأعلى